سلام الله عليكم و رحمته و بركاته
للجوع عشر فوائد هي:
الفائدة الأولى:
صفاء القلب وإيقاد القريحة وإنقاذ البصيرة,
فإن الشبع يورث البلادة ويعمي القلب ويكثر البخار في الدماغ شبه السكر حتى يحتوي على معان الفكر في ثقل القلب بسببه عن الجريان في الأفكار وعن سرعة الإدراك,
بل الصبي إذا أكثرالأكل بطل حفظه وفسد ذهنه وصار بطيء الفهم والإدراك.
ويقال: مثل الجوع مثل الرعد,
ومثل القناعة مثل السحاب,
والحكمة كالمطر.
الفائدة الثانية:
رقة القلب وصفاؤه الذي به يتهيأ لإدراك لذة المثابرة والتأثر بالذكر,
فكم منذكر يجري على اللسان مع حضور القلب ولكن القلب لا يتلذذ به ولا يتأثر حتى كأن بينه وبينه حجاباً من قسوة القلب.
قال أبو سليمان الداراني: أحلى ما تكون إليَّ العبادة إذا التصق ظهري ببطني.
الفائدة الثالثة:
الانكساروالذل وزوال البطر والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله تعالى,
فلا تنكسر النفس ولا تذل بشيء كما تذل بالجوع,
فعنده تسكن لربها وتخشع له وتقف على عجزها وذلها إذا ضعفت منتها وضاقت حيلتها بلقيمة طعام فاتتها,
وأظلمت عليها الدنيا لشربة ماء تأخرت عنها.
وما لم يشاهد الإنسان ذل نفسه وعجزه لا يرى عزة مولاه ولا قهره,
وإنما سعادته في أن يكون دائماً مشاهداً نفسه بعين الذل والعجز ومولاه بعين العز والقدرة والقهر.
الفائدة الرابعة:
أن لا تنسى بلاء الله وعذابه,
ولا ينسى أهل البلاء,
فإن الشبعان ينسى الجائع وينسى الجوع,
والعبد الفطن لا يشاهد بلاء من غيره إلا يتذكر بلاء الآخرة,
فيذكر من عطشه عطش الخلق في عرصات القيامة,
ومن جوعه جوع أهل النار,
حتى أنهم ليجوعون فيطعمون الضريع والزقوم ويسقون الغساق والمهل,
فلا ينبغي أن يغيب عن العبد عذاب الآخرة وآلامها,
فإنه هو الذي يهيج الخوف,
فمن لم يكن في ذلة ولا علة ولا قلة ولا بلاء نسي عذاب الآخرة ولم يتمثَّل في نفسه ولم يغلب على قلبه,
فينبغي أن يكون العبد في مقاساة بلاء أو مشاهدة بلاء,
وأولى ما يقاسيه من الجوع فإن فيه فوائد جمة سوى تذكرعذاب الآخرة.
الفائدة الخامسة:
وهى من أكبرالفوائد: كسر شهوات المعاصي كلها والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء,
فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى,
ومادة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة,
فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة,
وإنما السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه,
والشقاوة في أن تملكه نفسه,
وكما أنك لا تملك الدابة الجموح إلا بضعف الجوع
فإذا شبعت قويت وشردت وجمحت,
فكذلك النفس.
إن القوم لماشبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى هذه الدنيا.
وهذه ليست فائدة واحدة بل هي خزائن الفوائد.
ولذلك قيل: الجوع خزانة من خزائن الله تعالى,
وأقل ما يندفع بالجوع: شهوة الفرج وشهوة الكلام,
فإن الجائع لا يتحرك عليه شهوة فضول الكلام فيتخلص به منآفات اللسان كالغيبة والفحش والكذب والنميمة وغيرها,
فيمنعه الجوع من كلذلك,
وإذا شبع افتقر إلى فاكهة فيتفكه لا محالة بأعراض الناس,
ولا يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم.
وأما شهوة الفرج فلا تخفى غائلتها,
والجوع يكفي شرها.
وإذا شبع الرجل لم يملك فرجه,
وإن منعته التقوى فلا يملك عينه, فالعين تزني,
فإن ملك عينه بغض الطرف فلايملك فكره,
فيخطر له من الأفكار الرديئة وحديث النفس بأسباب الشهوة مايتشوش به مناجاته,
وربما عرض له ذلك في أثناء الصلاة.
الفائدة السادسة:
دفع النوم ودوام السهر,
فإن من شبع شرب كثيراً ومن كثر شربه كثر نومه,
وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجد وبلادة الطبع وقساوة القلب,
والعمرأنفس الجواهر,
وهو رأس مال العبد فيه يتجر,
والنوم موت فتكثيره ينقص العمر,
ثم فضيلة التهجد لا تخفى وفي النوم فواتها.
ومهما غلب النوم فإن تهجد لم يجد حلاوة العبادة.
فالنوم منبع الآفات,
والشبع مجلبة له,
والجوع مقطعة له.
الفائدة السابعة:
تيسير المواظبة على العبادة
فإن الأكل يمنع من كثرة العبادات لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل,
وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام وطبخه,
ثم يحتاج إلى غسل اليد والخلال,
ثم يكثر ترداده إلى بيت الماء لكثرة شربه.
والأوقات المصروفة إلى هذا لو صرفها إلى الذكر والمناجاة وسائر العبادات لكثر ربحه.
قال السري: رأيت مع علي الجرجاني سويقاً يستف منه
فقلت: ما حملك على هذا؟
قال: إني حسبت ما بين المضغ إلى الاستفاف سبعين تسبيحة فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة.
فانظر كيف أشفق على وقته ولم يضيعه في المضغ.
وكل نفس من العمر جوهرة نفيسة لا قيمة لها,
فينبغي أن يستوفي منه خزانة باقية في الآخرة لا أخر لها بصرفه إلى ذكر الله وطاعته.
ومن جملة ما يتعذر بكثرة الأكل الدوام على الطهارة وملازمة المسجد,
فإنه يحتاج إلى الخروج لكثرة شرب الماء وإراقته.
ومن جملته الصوم فإنه يتيسر لمن تعود الجوع,
فالصوم ودوام الاعتكاف ودوام الطهارة وصرف أوقات شغله بالأكل وأسبابه إلى العبادة أرباح كثيرة,
وإنما يستحقرها الغافلون الذين لم يعرفوا قدر الدين لكن رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها:
} يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ{ .
وقد أشار أبو سليمان الداراني إلى ست آفات من الشبع
فقال: من شبع دخل عليه ست آفات:
فقد حلاوة المناجاة,
وتعذر حفظ الحكمة,
وحرمان الشفقة على الخلق لأنه إذا شبع ظنّ أن الخلق كلهم شباع,
وثقل العبادة,
وزيادة الشهوات,
وأن أول سائر المؤمنين يدورون حول المساجد,
والشباع يدورون حول المزابل.
الفائدة الثامنة:
يستفيد من قلة الأكل صحة البدن ودفع الأمراض,
فإن سببها كثرة الأكل وحصول فضله الأخلاط في المعدة والعروق.
ثم المرض يمنع من العبادات ويشوش القلب ويمنع من الذكر والفكر,
وينغص العيش,
ويحوج إلى الفصد والحجامة والدواء والطبيب,
وكل ذلك يحتاج إلى مؤن ونفقات لا يخلو الإنسان منها بعد التعب عن أنواع من المعاصي واقتحام الشهوات,
وفي الجوع ما يمنع ذلك كله.
حكي أن الرشيد جمع أربعة أطباء: هندي, ورومي, وعراقي, وسوادي,
وقال: ليصف كل واحد منكم الدواء الذي لا داء فيه,
فقال الهندي: الدواء الذي لا داء فيه عندي هو الإهليلج الأسود,
وقال العراقي: هو حب الرشاد الأبيض,
وقال الرومي: هو عندي الماء الحار,
وقال السوادي وكان أعلمهم: الإهليلج يعفص المعدة وهذا داء,
وحب الرشاد يزلق المعدة وهذا داء,
والماء الحار يرخي المعدة وهذا داء,
قالوا: فما عندك؟
فقال: الدواء الذي لا داء معه عندي أنلا تأكل الطعام حتى تشتهيه,
وأن ترفع يدك عنه وأنت تشتهيه,
قالوا: صدقت.
الفائدة التاسعة:
خفة المؤنة,
فإن من تعود قلة الأكل كفاه من المال قدر يسير,
والذي تعودالشبع صار بطنه غريماً ملازماً له أخذ بمخنقه في كل يوم,
فيقول ماذا تأكل اليوم؟
فيحتاج إلى أن يدخل المداخل,
فيكتسب من الحرام فيعصي أو من الحلال فيذل,
وربما يحتاج إلى أن يمد أعين الطمع إلى الناس وهو غاية الذلوالقماءة,
والمؤمن خفيف المؤنة.
وقال بعض الحكماء: إني لأقضي عامة حوائجي بالترك فيكون ذلك أروح لقلبي.
وقال آخر: إذا أردت أن استقرض من غيري لشهوة أو زيادة استقرضت من نفسي فتركت الشهوة فهي خير غريم لي.
وكان إبراهيم بن أدهم رحمه الله يسأل أصحابه عن سعر المأكولات فيقولون إنها غالية,
فيقول: أرخصوها بالترك.
وقال سهل رحمه الله: الأكول مذموم في ثلاثة أحوال:
إن كان من أهل العبادة فيكسلوإن كان مكتسباً فلا يسلم من الآفات,
وإن كان ممن يدخل عليه شيء فلا ينصف الله تعالى من نفسه.
الفائدة العاشرة:
أن يتمكن من الإيثار والتصدق بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين,
فيكون يوم القيامة في ظل صدقته.
فمايأكله كان خزانته الكنيف,
وما يتصدق به كان خزانته فضل الله تعالى,
فليس للعبد من ماله إلا ما تصدق فأبقى أو أكل فأفنى أو لبس فأبلى.
فالتصدق بفضلات الطعام أولى من التخمة والشبع.
فى رعاية الله